كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن العلماء من قال: يفعل ذلك ثلاث مرّات ويؤكل صيده في الرابعة.
ومنهم من قال: إذا فعل ذلك مرّة فهو معلَّم ويؤكل صيده في الثانية.
التاسعة قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} أي حَبَسنَ لكم.
واختلف العلماء في تأويله؛ فقال ابن عباس وأبو هريرة والنخعيّ وقتادة وابن جبير وعطاء بن أبي رباح وعِكرمة والشافعيّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان وأصحابه: المعنى ولم يأكُل؛ فإن أكل لم يؤكل ما بقي، لأنه أمسك على نفسه ولم يُمْسِك على رَبّه.
والفَهْد عند أبي حنيفة وأصحابه كالكلب ولم يشترطوا ذلك في الطيور بل يؤكل ما أكلت منه.
وقال سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وسَلْمان الفارسيّ وأبو هريرة أيضًا: المعنى وإن أَكَل؛ فإذا أَكَل الجارحُ كلبًا كان أو فَهْدًا أو طيرًا أُكِل ما بقي من الصيد وإن لم يبق إلاَّ بَضْعة؛ وهذا قول مالك وجميع أصحابه، وهو القول الثاني للشافعي، وهو القياس.
وفي الباب حديثان بمعنى ما ذكرنا أحدهما حديث عدِيّ في الكلب المعلَّم: «وإذا أَكَل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه» أخرجه مسلم.
الثاني حديث أبي ثعلبة الخشني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيد الكلب: «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكُلْ وإن أكل منه وكُلْ ما رَدَّت عليك يدُك». أخرجه أبو داود وروِي عن عدِيّ ولا يصح؛ والصحيح عنه حديث مسلم؛ ولما تعارضت الروايتان رَامَ بعض أصحابنا وغيرهم الجمع بينهما فحملوا حديث النهي على التنزيه والورع، وحديث الإباحة على الجواز، وقالوا: إن عَدِيًّا كان موسَّعًا عليه فأفتاه النبيّ صلى الله عليه وسلم بالكف ورعًا، وأبا ثَعْلَبَة كان محتاجًا فأفتاه بالجواز؛ والله أعلم.
وقد دَلّ على صحة هذا التأويل قوله عليه الصَّلاة والسَّلام في حديث عدِيّ: «فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» هذا تأويل علمائنا.
وقال أبو عمر في كتاب «الاستذكار»: وقد عارض حديث عدِي هذا حديث أبي ثعلبة، والظاهر أن حديث أبي ثعلبة ناسخ له؛ فقوله: وإن أكل يا رسول الله؟ قال: «وإن أكل».
قلت: هذا فيه نظر؛ لأن التاريخ مجهول؛ والجمع بين الحديثين أولى ما لم يُعلَم التاريخ؛ والله أعلم.
وأما أصحاب الشافعيّ فقالوا: إن كان الأكل عن فَرْط جُوع من الكلب أكل وإلاَّ لم يُؤكل؛ فإن ذلك من سوء تعليمه.
وقد روي عن قوم من السلف التفرقة بين ما أكل منه الكلب والفَهْد فمنعوه، وبين ما أكل منه البازي فأجازوه؛ قاله النخعِيّ والثوريّ وأصحاب الرأي وحماد بن أبي سليمان، وحكى عن ابن عباس وقالوا: الكلب والفهد يمكن ضربه وزَجْره، والطير لا يمكن ذلك فيه، وحدّ تعليمه أن يُدعى فيجيب، وأن يُشْلى فيَنْشَلِي؛ لا يمكن فيه أكثر من ذلك، والضرب يؤذيه.
العاشرة والجمهور من العلماء على أن الجارح إذا شَرِب من دم الصيد أن الصيد يؤكل؛ قال عطاء: ليس شرب الدّم بأكل؛ وكره أكلَ ذلك الصيد الشعبيّ وسفيان الثوريّ، ولا خلاف بينهم أن سبب إباحة الصيد الذي هو عَقر الجارح له لابد أن يكون متحقَّقًا غير مشكوك فيه، ومع الشك لا يجوز الأكل، وهي:
الحادية عشرة فإن وَجَد الصائد مع كلبه كلبًا آخر فهو محمول على أنه غير مُرسَل من صائد آخر، وأنه إنما انبعث في طلب الصيد بطبعه ونفسه، ولا يُختلف في هذا؛ لقوله عليه الصَّلاة والسلام: «وإن خالطها كِلاب من غيرها فلا تأكل» في رواية «فإنما سمّيتَ على كلبك ولم تسم على غيره» فأمّا لو أرسله صائد آخر فاشترك الكلبان فيه فإنه للصائدَين يكونان شريكين فيه.
فلو أنفذ أحد الكلْبين مقاتِله ثم جاء الآخر فهو للذي أنفذ مقاتله؛ وكذلك لا يؤكل ما رُمي بسهم فتردّى من جبل أو غَرِق في ماء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لعَدِيّ: «وإن رَميتَ بسهْمك فاذكر اسم الله فإن غاب عنك يومًا فلم تجد فيه إلا أثر سَهْمك فكُلْ وإن وجدته غَرِيقًا في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماءُ قتله أو سهمك» وهذا نصّ.
الثانية عشرة لو مات الصيد في أفواه الكلاب من غير بَضْع لم يؤكل؛ لأنه مات خَنْقًا فأشبه أن يُذبح بسكّين كَالَّة فيموت في الذّبح قبل أن يفرى حَلْقُه.
ولو أمكنه أخْذُه من الجوارح وذَبْحُه فلم يفعل حتى مات لم يؤكل، وكان مقصِّرًا في الذّكاة؛ لأنه قد صار مقدورًا على ذَبْحه، وذكاة المقدور عليه تخالف ذكاة غير المقدور عليه.
ولو أخذه ثم مات قبل أن يُخرج السِّكّين، أو تناولها وهي معه جاز أكله؛ ولو لم تكن السّكّين معه فتشاغل بطلبها لم تؤكل.
وقال الشافعي: فيما نالته الجوارح ولم تُدْمِه قولان أحدهما ألاّ يؤكل حتى يجرح؛ لقوله تعالى: {مِّنَ الجوارح} وهو قول ابن القاسم؛ والآخر أنه حلّ وهو قول أشهب، قال أشْهَب: إن مات من صَدْمة الكلب أُكل.
الثالثة عشرة قوله: «فإن غاب عنك يومًا فلم تَجِد فيه إلا أثر سَهْمك فكُلْ» ونحوه في حديث أبي ثَعْلَبة الذي خرّجه أبو داود، غير أنه زاد «فكُلْه بعد ثلاث ما لم يُنْتن».
يعارضه قوله عليه السلام: «كُلْ ما أَصْمَيْت ودَع ما أَنْمَيْت» فالإصْماء ما قَتَل مسرعًا وأنت تراه، والإنماء أن ترمي الصيد فيغيب عنك فيموت وأنت لا تراه؛ يقال: قد أنْمَيْتُ الرَّمِيَّة فَنَمت تَنْمى إذا غابت ثم ماتت؛ قال امرؤ القيس:
فَهْوَ لا تَنْمِي رَمِيَّتُهُ ** مَالَه لا عُدّ مِن نَفَرِهْ

وقد اختلف العلماء في أكل الصَّيد الغائب على ثلاثة أقوال: يؤكل، وسواء قَتَله السَّهْم أو الكلب.
الثاني لا يؤكل شيء من ذلك إذا غاب؛ لقوله: «كُلْ ما أصميت ودَعْ ما أَنْمَيْت» وإنما لم يؤكل مخافة أن يكون قد أعان على قتله غير السهم من الهوامّ.
الثالث الفرق بين السَّهْم فيؤكل وبين الكلب فلا يؤكل؛ ووجهه أن السَّهْم يقتل على جهة واحدة فلا يُشكِل؛ والجارح على جهات متعدّدة فيُشكِل؛ والثلاثة الأقوال لعلمائنا.
وقال مالك في غير الموطّأ: إذا بات الصيد ثم أصابه مَيْتًا لم يُنفذ البازي أو الكلب أو السهم مقاتِله لم يأكله؛ قال أبو عمر: فهذا يَدُلّك على أنه إذا بلغ مَقَاتِله كان حلالًا عنده أكله وإن بات، إلا أنه يكرهه إذا بات؛ لما جاء عن ابن عباس: «وإن غاب عنك ليلة فلا تأكل» ونحوه عن الثوريّ قال: إذا غاب عنك يومًا كَرهت أكله.
وقال الشافعي: القياس ألاّ يأكله إذا غاب عنه مَصْرعه.
وقال الأُوزاعيّ: إن وجده من الغد ميتًا ووجدَ فيه سهمه أو أثرًا من كلبه فليأكله؛ ونحوه قال أشهب وعبد الملك وأصْبَغ؛ قالوا: جائز أكل الصّيد وإن بات إذا نَفَذَت مقاتله، وقوله في الحديث: «ما لم يُنْتن» تعليل؛ لأنه إذا أنتن لحِق بالمستقذرات التي تَمُجُّها الطباع فيكره أكلها؛ فلو أكلها لجاز، كما: أكل النبي صلى الله عليه وسلم الإهالة السَّنِخَة وهي المنتنة.
وقيل: هو معلَّل بما يخاف منه الضّرر على آكله؛ وعلى هذا التعليل يكون أكله محرّما إن كان الخوف مُحقَّقًا، والله أعلم.
الرابعة عشرة واختلف العلماء من هذا الباب في الصيد بكلب اليهوديّ والنصرانيّ إذا كان معلَّما؛ فكرهه الحسن البصريّ؛ وأما كلب المجوسيّ وبَازُه وصَقْره فكره الصيد بها جابر بن عبد الله والحسن وعطاء ومجاهد والنخعيّ والثوريّ وإسحاق؛ وأجاز الصيد بكلابهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إذا كان الصّائد مسلمًا؛ قالوا: وذلك مثل شَفْرته.
وأما إن كان الصّائد من أهل الكتاب فجمهور الأُمّة على جواز صيده غير مالك، وفرّق بين ذلك وبين ذبيحته؛ وتَلاَ {يا أيها الذين آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] قال: فلم يذكر الله في هذا اليهود ولا النصارى.
وقال ابن وَهْب وأَشْهَب: صيد اليهوديّ والنصرانيّ حلال كذبيحته؛ وفي كتاب محمد لا يجوز صيد الصَّابئ ولا ذبحه؛ وهم قوم بين اليهود والنصارى ولا دين لهم.
وأما إن كان الصّائد مَجُوسيّا فمنع من أكله مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وجمهور الناس.
وقال أبو ثور فيها قولان: أحدهما كقول هؤلاء، والآخر أن المجوس من أهل الكتاب وأن صيدهم جائز.
ولو اصطاد السكران أو ذَبَح لم يؤكل صيده ولا ذبيحته؛ لأن الذكاة تحتاج إلى قَصْد، والسّكران لا قَصْد له.
الخامسة عشرة واختلف النحاة في «مِنْ» في قوله تعالى: {مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فقال الأخفش؛ هي زائدة كقوله: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} [الأنعام: 141].
وخطأه البصريون وقالوا: «مِنْ» لا تزاد في الإثبات وإنما تزاد في النفي والاستفهام، وقوله: {مِنْ ثَمَرِه}، {وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271] و{يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31] للتبعيض؛ أجاب فقال: قد قال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} بإسقاط «مِنْ» فدل على زيادتها في الإيجاب؛ أجيب بأن «مِنْ» هاهنا للتبعيض؛ لأنه إنما يحلّ من الصيد اللحم دون الفَرْث والدّم.
قلت: هذا ليس بمراد ولا معهود في الأكل فيعكّر على ما قال.
ويحتمل أن يريد {مِمَّا أَمْسَكْنَ} أي ممّا أبقته الجوارح لكم؛ وهذا على قول من قال: لو أكَلَ الكلب الفَرِيسة لم يَضرّ وبسبب هذا الاحتمال اختلف العلماء في جواز أكل الصيد إذا أَكَل الجارح منه على ما تقدّم.
السادسة عشرة ودَلّت الآية على جواز اتخاذ الكلاب واقتنائها للصيد، وثبت ذلك في صحيح السّنّة وزادت الحرث والماشية؛ وقد كان أوّل الإسلام أمر بقتل الكلاب حتى كان يقتل كلب المرية من البادية يتبعها؛ رَوى مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتنى كلبًا إلاّ كلب صيد أو ماشية نَقص من أجره كل يوم قيراطان» ورُوي أيضًا عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اتخذ كلبًا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط» قال الزهريّ: وذُكر لابن عمر قول أبي هريرة فقال: يرحم الله أبا هريرة، كان صاحب زرع؛ فقد دلّت السّنّة على ما ذكرنا، وجعل النقص من أجر من اقتناها على غير ذلك من المنفعة؛ إما لترويع الكلب المسلمين وتشويشه عليهم بنُبَاحه كما قال بعض شعراء البصرة، وقد نزل بعمّار فسمع لكلابه نباحًا فأنشأ يقول:
نَزَلنا بعمار فأَشْلى كِلاَبه ** علينا فكِدْنا بين بيتيه نُؤكَلُ

فقلت لأصحابي أسرّ إليهم ** أذا اليومُ أم يومُ القيامةِ أطولُ

أو لمنع دخول الملائكة البيت، أو لنجاسته على ما يراه الشافعيّ، أو لاقتحام النهي عن اتخاذ ما لا منفعة فيه؛ والله أعلم.
وقال في إحدى الروايتين: «قيراطان» وفي الأُخرى «قيراط» وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشدّ أذًى من الآخر؛ كالأسود الذي أمر عليه الصلاة والسلام بقتله، ولم يُدخله في الاستثناء حين نهى عن قتلها فقال: «عليكم بالأسود البَهِيم ذِي النقطتين فإنه شيطان». أخرجه مسلم.
ويحتمل أن يكون ذلك لاختلاف المواضع، فيكون مُمْسِكه بالمدينة مثلًا أو بمكة ينقص قيراطان، وبغيرهما قيراط؛ والله أعلم.
وأما المباح اتخاذه فلا ينقص أجر متّخذه كالفرس والهِرّ، ويجوز بيعه وشراؤه، حتى قال سحنون: ويحجّ بثمنه.
وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو الذي يَسْرَح معها لا الذي يحفظها في الدار من السُّرّاق.
وكلب الزرع هو الذي يحفظه من الوحوش بالليل والنهار لا من السُّرّاق.
وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسرّاق الماشية والزّرع والدار في البادية.
السابعة عشرة وفي هذه الآية دليل على أن العالم له من الفضيلة ما ليس للجاهل؛ لأن الكلب إذا عُلِّم يكون له فضيلة على سائر الكلاب، فالإنسان إذا كان له عِلْم أولى أن يكون له فضل على سائر الناس، لاسيما إذا عَمِل بما عَلِم؛ وهذا كما رُوى عن عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه أنه قال: لكل شيء قيمة وقيمة المرء ما يُحسِنه.